الخير باقٍ في هذه الأمة
سمات الخير التي اتسمت بها هذه الأمة تشهد بها كثير من المواقف والأمثلة المشرقة في شتى النواحي ، ونحن نحتاج الى ان نركز عليها لنأخذ منها العبر ونشحذ بها الهمم ، ومن اعظم ما يفعله الانسان في جوانب الخير هذه هو أن يدع حقه لله ، وأن يصفح ويعفو ويرحم رغبة فيما عنده سبحانه اتباعا لقوله تعالى : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } واتباعا لسنة نبينا الكريم الذي حثنا على تمالك النفس وعدم الانسياق لنوازع الغضب : " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ".
اما ما وقفت عليه فهما مشهدان كان اولهما موقفاً صعباً قد أفضى الى خير ولكنه ترك في النفس غصة وعلامات استفهام كثيرة ، والموضوع يتعلق بقضية قصاص ، وهي من الجوانب التي أولتها الدولة عنايتها ، وتصدت لها بأن كوّنت لها لجاناً على أعلى مستوى من ولاة الأمر والأعيان ، للسعي في الصلح وعتق الرقاب ، ولرأب الصدع الذي تتركه حوادث القتل في المجتمع او في الأسر ، وخادم الحرمين حفظه الله يشرف ويترأس هذه اللجان بنفسه ، ويوكل ابناءه لمتابعتها ، وحادثة القصاص هذه سعى فيها الجميع ليرضوا اهل الموتورين ، وتم بفضل من الله العفو عن القاتل ، ولكن بالرغم من الفرحة بهذا العفو الا انها كانت فرحة ممزوجة بحسرة وألم لأن اهل القتيل غالوا في طلبات التعويض حتى بلغت ملايين الريالات ، ولكن ذلك الأمر على صعوبته الشديدة لم يثن اهل الخير ولم يضعف هممهم بل شرعوا جزاهم الله خيرا لجمعها لعتق تلك الرقبة ، وقد وقفت امام هذا الموقف وفي النفس غصة وبعض الأسئلة الحائرة ، هل هذا الذي حدث من الشرع !! ، فنحن جميعا نعلم مقدار الدية الشرعية والانسان اذا قرر ان يصفح ويأخذ الدية فما الذي يدفعه لأن يغالي في مقدارها الى حد اعجاز الطرف الآخر ، فليس في الدين ما يقر هذا التصرف الذي لايتفق مع المقصود من العفو والتجاوز عن الذنب والخطأ الذي يحثنا عليه ديننا وهو ترك مسألة العقاب وتفويضها لله سبحانه وتعالى .
لذلك فإننا نحتاج الى مراجعة هذا الموضوع بجدية والنظر فيه من قبل اهل العلم ليجتهدوا ويوضحوا للناس الرأي الشرعي في مثل هذه المغالاة في طلب الدية لأن من يصفح انما يعامل الله سبحانه وتعالى وما عند الله أغنى وأبقى .
اما الموقف الآخر الذي اثر كذلك في نفسي وكان سبباً في كتابتي لهذه المقالة هو حادث قصاص آخر تصدى له القائمون على هذه اللجان وسعوا فيه حتى وفق الله مسعاهم ، واصر ولي الدم ان يجتمع الجميع حتى يوافق ، ثم اعلن امام الجمع ان له شرطا لن يتنازل عنه ، فظن الجميع انه سيسعى لطلب مبالغ طائلة مقابل العفو ، وكانت المفاجأة انه قام واعلن صفحه عن القاتل ، وليس ذلك فحسب وانما اشترط ان يطلق سراحه على الفور ، وان يعاد الى عمله لكي يستطيع ان يعيل أسرته وأهله ، فقد كان عائلها الوحيد ، فضرب بذلك مثلا يحتذي في الصفح عند المقدرة وان الخير لايزال في هذه الأمة الى يوم القيامة .
فالحمد لله على هذا الخير الذي خصنا الله به ، بأن جعل فينا من يمتثل لهذه المعاني السامية التي يتغلب فيها الانسان على حزنه ووتره ويرضى بما عند الله ، وذكرني ذلك بموقف ابي الدحداح عندما تنازل عن بستانه وقصره وبئره وحائطه بكامله ليتاجر مع الله ويبيعه مقابل نخلة طلب صلى الله عليه وآله وسلم شراءها ليتيم وقول زوجته عندما اخبرها : " ربح البيع ابا الدحداح .. ربح البيع " ونحن في هذا الموقف لا نملك الا ان نقول لذلك الرجل الشهم : ربح البيع .. ربح البيع ونسأل الله له الأجر والمثوبة وان يخلفه الله خيرا وعوضا في الدنيا والآخرة ، وقد حق عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزَّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"
والله من وراء القصد وهو الموفق والهادي الى سواء السبيل ،،