خط أحمر
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا)، وبين في آياته المحكمات ما يهم الخلق في حياتهم وعباداتهم وفي كل شؤونهم، وشرع لهم من التشريعات ما ينظم علاقتهم ببعضهم، وجعلهم متفاوتين في الخلقة والعقل، وأن تختلف اتجاهاتهم ولا تتفق رؤاهم ومواقفهم.
ومن ينظر إلى قضية الاختلاف الفكري في الإسلام يجد أنه أمر مشروع ومكفول، وفي بعض الأحيان مندوب إليه، فهو دعانا إلى احترام بعضنا عندما نختلف، وأن يكون الاختلاف الفكري على أسس علمية واشتقاقات صحيحة، وهذا ما يثري الثقافة الإسلامية وأثراها عبر العصور، حتى وإن شط بعض الناس بأفكارهم وذهبوا بعيدا، ولم يلتزموا بالقواعد العلمية التي يستخدمها العلماء ليخلصوا إلى نتائج صحيحة، علينا أن نختلف معهم بشدة، ونفند آراءهم، ولكن في إطار العلم والفكر والاحترام.
أما الأفكار عندما تتخطى الخط الأحمر، وتبدأ تنتقل إلى خطاب تحريضي، أو إلى أعمال إجرامية ضد المجتمع بمختلف أشكالها وقوالبها، فهي تصبح جريمة تنفصل علاقتها بالفكر، فالفكر مكانه العقل ومكانه الندوات وقاعات الدراسة، وحتى أحيانا في الصحف، لكن عندما ينتقل الخطاب الفكري إلى عمل تحريضي مباشر، ودعوة للفعل الإجرامي أو الفعل الإجرامي نفسه، فهذه جريمة ليست لها علاقة بالفكر، ولا يجب أن نجد لها مبررات. ونحن قد ندرس الظاهرة وندرس دوافعها ـ وهذا أمر مشروع ـ ولكن فيما يخص من قاموا بها فهذه جريمة ولها عقابها، وهذه الفلسفة هي فلسفة الإسلام، فقد جاء القرآن الكريم واضحا في هذه المسألة: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) واللفظ القرآني جلي وفيه إشارة تقرن القصاص بالحياة، وأن الحياة لا تستقيم دون إعمال الشريعة، والقصاص ممن تعدى على مجتمعه بمختلف الصيغ، فالشرع فيه عقوبات مختلفة، وبدرجات متفاوتة في صورة حدود وتعزير وغيرها لمختلف الجرائم، وهي تختلف أحيانا باختلاف العصور، ولكن هناك من العقوبات ما هو ثابت، ولكن تظل قائمة لأن صلاح المجتمع فيها، والآية: (ولكم في القصاص حياة) هي دعوة لأهل الفكر والمنطق ليتمعنوا في ذلك، فالحكمة متوازنة ككفي ميزان: (القصاص يقيم الحياة)، والموروث الشعبي والحكمة الشعبية من التجربة الإنسانية جاءت أيضا واضحة: (من أمن العقوبة أساء الأدب).
وعندما ننظر إلى ما جاء في الحديث النبوي الشريف في هذا الشأن نجد أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قد أشار إشارة واضحة جعل فيها السقف في أعلاه وأقصاه عندما ذكر مسألة القصاص والحدود، فقال، عليه الصلاة والسلام، في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» وحاشا السيدة الكريمة السيدة فاطمة أن تفعل، ولكنها إشارة جلية من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أن المجتمعات تقوم على العدل وعلى القيم التي تجسد العدل، وضرب هذا المثل حتى يكون كل ما دونه مندرجا فيه، فيجب أن نركز على هذا المعنى القرآني والمعنى النبوي الشريف ونتعلم منه. ونحن في بلادنا لنا تجربة يجب أن نراجعها، فعملية المراجعة والمناصحة التي أغرقنا فيها أنفسنا رأينا فيها الناس الذين خضعوا لها عادوا ليحاربوا الدولة، ويحاربوا المجتمع في صور مختلفة، وبطرق شتى، فمسألة التوبة هي مسألة بين العبد وربه، فإذا تاب نسأل الله أن يتقبل توبته، وندعو للجميع أن يقبلهم الله ويقبلنا. ولكن القصاص هذا حق من حقوق المجتمع الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، فالذي يرتكب جرما يوقع عليه ما يعادله من عقوبة، بعد ذلك له ما أراد إن شاء التوبة فليتب وإن شاء استئناف حياته وأن يشمله الله برحمته فله ما شاء، وندعو لأنفسنا وللجميع بالهداية، ولكن العقوبة لا خيار فيها، فهي يجب أن تنفذ لأنها فلسفة ربانية ممن خلق الخلق، فهو أعلم بما يصلح أمرهم وشأنهم.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل وطننا وجميع من فيه ممن يقيمون العدل ويعملون به، فالعدل قيمة سامية، ولكنها ذات وجهين، فأنت تطلب العدل لنفسك لتأخذ حقوقك ولكن في حال خطئك يجب أن ترضى بأن تؤخذ منك الحقوق وتخضع للعدالة فتعطي وتأخذ فتستقيم الأمور. وندعوه تبارك وتعالى أن يلهمنا جميعا الرشد ويهدينا لما يرضيه سبحانه ويرضي نبيه الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم.